اليمن ومشروع طريق الحرير

12 ديسمبر, 2022

بسم الله الرحمن الرحيم

يعاني النظام الاقتصادي الرأسمالي في مختلف دول العالم من مشاكل هيكلية في تكوينه الإيديولوجي، انعكس في تراجع معدلات النمو الاقتصادي العالمي بسبب ارتفاع معدلات البطالة والفقر والتضخم والمديونية العامة، فبعد مرور عشرات السنين من الأزمة الاقتصادية التي وقعت عام 2008، يبدو أن الأزمة الاقتصادية العالمية المقبلة ستكون كارثية نتيجة تراكم ممارسة سياسات اقتصادية خاطئة وحلول فردية مصطنعة، وخلل جوهري في ثوابت وأبجديات المدرسة الاقتصادية الرأسمالية، مما أدى الى اهتزاز الثقة في إمكانية النظام الرأسمالي لتلبية حاجات وتطلعات الأجيال المستقبلية، خاصة في ظل ثورة المعلومات الرقمية وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.

لقد وضع أصحاب الفكر المالي والاقتصادي الحديث مجموعة من الفرضيات والتوقعات والحلول لمختلف القضايا الاقتصادية، معتمدين على سياسة الاحتواء الاقتصادي وتوظيف أدوات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي المتشددين في تطبيق مفاهيم النظام الرأسمالي بهدف ترسيخ سياسة القطب الاقتصادي الواحد، ومع مرور الوقت ظهر الانهيار، وظهرت التداعيات الاقتصادية المتوالية لكبريات الدول، وتكشفت عيوب النظام الرأسمالي في عدم مقدرته على إيجاد الحلول المناسبة للخروج من الازمات المتوالية.

إن تداعيات وارتدادات الأزمة الاقتصادية الحالية قد طالت مختلف دول العالم وكانت الحرب الروسية الاكرانية هي القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث أظهرت هذه الحرب هشاشة معظم الدول الغربية، اذ تعاظمت معدلات الدين العام، وارتفع التضخم في مختلف دول العالم، وأدت هذه التداعيات الى ظهور صراعات مالية واقتصادية وتجارية قد تتجاوز في شراستها الصراعات العسكرية التي حدثت هنا وهناك كما ان هذه التداعيات التي افرزتها الحرب الروسية الاكرانية قد زعزعت النظام الرأسمالي العالمي وخلطت الثوابت التي اعتمدها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في إدارة الاقتصاد العالمي.

الكل يدرك أن مساهمة الاقتصاد الأميركي في الاقتصاد العالمي قد انخفض بشكل حاد خلال السنوات القليلة الماضيين، بالمقابل ارتفع اسهام الاقتصاد الصيني في الاقتصاد العالمي، وهذا دليل على تزايد قوة الصين الاقتصادية عالمياً، والتي تعتمد في إدارة اقتصادها على أيديولوجية اشتراكية مرنة ومتوازنة وممارسات رأسمالية حديثة أكثر تطوراً وعدلاً من النظام الرأسمالي الحالي، مع الانفتاح نحو شراكات اقتصادية مع دول العالم الثالث معتمدة في ذلك على ارتفاع حالة الامتعاض من السياسة الامريكية تجاه دول الشرق الأوسط بشكل عام ودول الخليج بشكل خاص.
أدت الاحداث المتوالية في منطقة الشرق الأوسط والضغط الأمريكي على مختلف دول المنطقة العربية بشكل خاص الى احداث تقارب نوعي فيما بين الدول العربية والتنين الصيني، وسعى الجميع نحو بناء علاقة شراكة اقتصادية تستند على التوازن في تحقيق المنافع الاقتصادية بعيداً عن الهيمنة والتفرد والقطب الواحد، فكانت القمة العربية الصينية التي عقدت في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية الأسبوع الماضي بمشاركة الرئيس الصيني هي النقطة الفاصلة التي يمكن معها للدول العربية الخروج من حالة الهيمنة الغربية الامريكية، حيث عززت تلك القمة النظرة المستقبلية للعلاقات العربية الصينية، خاصة وان الصين تسعى الي استكمال مشروعها الاقتصادي العملاق “طريق الحرير” خلال السنوات القليلة القادمة.
لقد وضعت الصين استراتيجيتها لمشروع طريق الحرير وفق ثوابت اقتصادية تضمن لها تحقيق مصالحها اعتماداً على التنمية الاقتصادية للدول المشاركة في طريق الحرير وفق ثوابت تضمن للدول المشاركة تحقيق غاياتها التنموية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئة الضامنة للتفاعل الإيجابي لكل الدول المشاركة، مع تجنب أي مواجهة سياسية مع الغرب، والحرص على خلق حالة اقتصادية وتجارية طويلة المدى تستند على مبدأ التبادل الاقتصادي والتجاري فيما بين الصين والدول المشاركة في طريق الحرير.

والسؤال هنا يضع نفسه …
اين هي بلادنا من كل ذلك، ما هو وضع اليمن من كل تلك التقلبات الاقتصادية المتسارعة والأوضاع الاقتصادية التي تعصف بالعالم شرقه وغربه؟ … وكيف يمكن ان تخرج اليمن من ازماتها المتوالية؟ … وهل حان الوقت لوقوف الحكومة اليمنية امام العديد من الملفات الاقتصادية للوصول الى أرضية متينه تمكنها من تجاوز الواقع الاقتصادي المتردي وتلحق بركب الدول المشاركة في مشروع طريق الحرير؟

اجزم ان الوقت قد حان، وان العمل على تنفيذ سلسلة من الإصلاحات العميقة التي تساعد على إعادة الثقة في الاقتصاد الوطني يمكن ان يتم اذا ما خلصت النوايا.
واجد ان من اهم الأولويات التي يمكن الشروع فيها هو استقرار الاوضاع الأمنية وتامين خطوط الملاحة في جميع المنافذ البحرية، اذ يعد ذلك الدافع الأول والأخير لإمكانية ادخال اليمن ضمن مشروع “طريق الحرير”، ولذا لابد من قيام الحكومة باتخاذ خطوات مدروسة لأحكام عملية السيطرة على المنافذ البرية والبحرية ادارياً وامنياً والشروع في وضع ملف المنافذ البرية والبحرية امام مختلف الأطراف الإقليمية والدولية بكل شفافية وبما يضمن مصالح اليمن في المقام الأول ومصالح مختلف الأطراف في المقام التالي، خاصة وان مشروع طريق الحرير الصيني لا يتضمن أي ترتيبات أمنية لحماية مساراتها.
ان من اهم المعززات للحالة الاقتصادية الوطنية والتي ستمكن مختلف الأطراف الخارجية للتعاطي مع اليمن كشريك اقتصادي هي اظهار القدرة على مكافحة الفساد وسرعة تفعيل مؤسسات الرقابة، خاصة وان
هناك اتهامات طالت العديد من الوزراء بممارسة الفساد المالي والإداري والتكسب غير مشروع، وبالتالي لابد من تفنيد كل تلك الادعاءات، مع قيام الحكومة بدورها الشفاف في إحالة كل القضايا التي تمس المال العام لنيابة الأموال العامة وهذا بدوره سيعزز من موقف الحكومة امام الراي العام الداخلي والخارجي وسيساعد على إعادة الثقة في مؤسسات الدولة، وسيزيل اللغط، اذ ان كل الممارسات السلبية وحالة الفساد الممارس ينعكس على الحكومة الشرعية بشكل مباشر.

يدرك الجميع اهمية الاستقرار المالي لتعزيز الدخول في مشروع طريق الحرير ، لذا يجب العمل على تعزيز قدرة البنك المركزي على أداء دورة وفقاً للقانون بعيداً عن الحسابات السياسية الضيقة، وتعزيز القدرات الذاتية للبنك المركزي اليمني لمواجهة الطلب على العملة الصعبة لاستيراد المواد الغذائية، والمضي في دعم قيمة الريال والذي اثر انخفاضه على حياة كل أبناء الشعب في الجنوب والشمال وادى الى تضخم عالي، بالإضافة الى قيام الحكومة بمراجعة الية الاستخدام السابقة للوديعة السعودية بشفافية عالية ووضع الية تضمن الاستفادة من أي وديعة مستقبلية، مع ضرورة اخراج موازنة عامة للدولة للعام 2023م تتسم بالواقعية وفق ضوابط قانونية مع اهمية قيام الحكومة بضبط مصروفاتها، اذ يدرك الجميع ان هناك اهدار متعمد من قبل البعض للمال العام، وان الفساد المستشري بات ينخر في كل مفاصل الدولة نتيجة غياب الشفافية والمسائلة وغياب الوازع الأخلاقي والديني لدى معظم أصحاب القرار في مختلف المؤسسات العامة، وهذا مما يزيد من حنق المواطن على الدولة، وينعكس سلباً على سمعة اليمن خارجياً.

ولعل من المفيد الإشارة هنا الى ان الشراكة التي يمكن ان تحدث في حال دخول اليمن ضمن مسار طريق الحرير الصيني هو التأسيس للمشاريع الصناعية ذات البعد الاستهلاكي، وان الدخول في مجال التصنيع يتطلب توفير الحد المقبول من التيار الكهربائي، وهنا لابد من العمل على وضع استراتيجية مزمنة لمعالجة قضايا توفير التيار الكهربائي بعيداً عن الية استجار الطاقة مع اهمية أشرك القطاع الخاص في ذلك.

ليس بخفي على أحد ان مبادرة طريق الحرير الصينية في جوهره اقتصادي، في حين ان الأولويات السياسية هي التي تتحكم بالمشهد في المنطقة العربية بشكل عام وباليمن بشكل خاص، ولعل في ذلك افادة لنا في اليمن في الوقت الحالي، اذ ان الصين في الوقت الراهن لديها رؤية اقتصادية ولم تقدم حتى الان الرؤية السياسية المكملة للمشروع الاقتصادي، اذ يعد التكامل فيما بين الرؤية الاقتصادية والسياسية هو الضامن لاستمرار المشروع وعدم انحصاره في تبادل البضائع والمنافع الاقتصادية، خاصة وان النماذج الاقتصادية العالمية التي تبنتها الدول الرائدة على مدى عقود مضت قد اكدت على ان التداعيات السياسية قد تعرقل المسارات الاقتصادية، وبما ان طريق الحرير كما ذكرنا لا يحمل مبادئ سياسية يمكن أن تساعد اليمن على الخروج من الأوضاع الكارثية التي وصلنا اليها الانقلاب الحوثي، فان الوقت قد يسعفنا للعمل على التهيئة للانخراط في مشروع طريق الحرير، و الاتجاه نحو تبني خارطة طريق لتأهيل اليمن في مختلف المسارات الاقتصادية والعمل على إزالة التحديات والصعوبات التي افرزها الانقلاب الحوثي ومعالجة الأزمات الاقتصادية بالشكل الذي ينعكس على اليمن الأرض والانسان، حتى اذا ما خلصت الدول الفاعلة للاتفاق على النظام الاقتصادي الجديد المتوازن وتم الاخذ بعين الاعتبار التفاعل والتكامل بين الاقتصاد المالي والاقتصاد الاجتماعي ضمن نظام اقتصادي متعدد الأطراف، واستقرت الأوضاع، كنا في اليمن قد قطعنا شوط كبير في مسار التصحيح الاقتصادي واصبحنا اكثر قرباً للانخراط في علاقة الشراكة الاقتصادية مع الصين ومع غيرها من الدول الإقليمية والدولية.

 ،، والله من وراء القصد ،،

نبيل حسن الفقيه
12 ديسمبر 2022م